الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***
لما كان أكثر المنازعات في الديون والبياعات والمنازعات محتاجة إلى قطعها أعقبها بما هو القاطع لها وهو القضاء والكلام فيه عشرة مواضع الأول في معناه لغة وهو بالمد ككساء وأكسية ففي المصباح أنه مصدر قضيت بين الخصمين وعليهما حكمت ا هـ. وفي الصحاح القضاء الحكم وأصله قضاي؛ لأنه من قضيت إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف قلبت همزة، والجمع الأقضية وقضى أي حكم ومنه قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}، وقد يكون بمعنى الفراغ تقول قضيت حاجتي وضربه فقضى عليه أي قتله كأنه فرغ منه، وسم قاض أي قاتل وقضى نحبه قضاء أي مات، وقد يكون بمعنى الأداء والإنهاء تقول قضيت ديني ومنه قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} وقوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر} أي أنهيناه إليه وأبلغناه ذلك قال الفراء في قوله تعالى: {ثم اقضوا إلي} أي امضوا إلي كما يقال قضى فلان أي مات ومضى، وقد يكون بمعنى الصنع والتقدير قال أبو ذؤيب وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع يقال قضاه أي صنعه وقدره، ومنه قوله تعالى: {فقضاهن سبع سماوات في يومين} ومنه القضاء والقدر، ويقال استقضي فلان أي صير قاضيا. ا هـ. وحاصله أنه يستعمل لغة بمعنى الحكم والفراغ والهلاك والأداء والإنهاء والمضي والصنع والتقدير، وفي القاموس القضاء يمد أو يقصر الحكم قضى عليه يقضي قضيا وقضاء وقضية وهي الاسم أيضا إلى آخر ما فيه الثاني في معناه شرعا فعرفه في فتح القدير بالإلزام، وفي المحيط بفصل الخصومات وقطع المنازعات وفي البدائع الحكم بين الناس بالحق وهو الثابت عند الله تعالى من حكم الحادثة إما قطعا بأن كان عليه دليل قطعي وهو النص المفسر من الكتاب أو السنة المتواترة أو المشهورة أو الإجماع، وإما ظاهرا بأن أقام عليه دليلا ظاهرا يوجب علم غالب الرأي، وأكثر الظن وهو ظاهر الكتاب والسنة، ولو خبر واحد والقياس وذلك في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء أو التي لا رواية فيها عن السلف فلو قضى بما قام الدليل القطعي على خلافه لم يجز؛ لأنه قضى بالباطل قطعا، وكذا لو قضى في موضع الاختلاف بما هو خارج عن أقاويل الفقهاء لم يجز؛ لأن الحق لم يعدوهم، ولذا لو قضى بالاجتهاد فيما فيه نص ظاهر بخلافه لم يجز؛ لأن القياس في مقابلة النص باطل ولو ظاهرا. وأما ما لا نص فيه فإن مجتهدا قضى برأيه لا برأي غيره وإذا قلد الأفقه وسعه عند الإمام الاجتهاد خلافا لهما، وقيل الخلاف على العكس وإن أشكل عليه الحكم استعمل رأيه، والأفضل مشاورة الفقهاء فإن اختلفوا أخذ بما يؤدي إلى الحق ظاهرا وإن اتفقوا على خلاف رأيه عمل برأي نفسه لكن لا يعجل بالقضاء حتى لو قضى مجازفا لم يصح فيما بينه وبين الله تعالى فإذا كان مجتهدا أو لا يدرى حاله يحمل على أنه قضى برأيه حملا له على الصلاح، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فإن حفظ أقاويل الصحابة عمل بمن يعتقد قوله حقا على التقليد، وإلا عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا فإن لم يكن فيها إلا واحد وسعه الأخذ بقوله ولو قضى بمذهب خصمه وهو يعلم بذلك لم ينفذ، ولو كان ناسيا فله أن يبطله وفي بعض الروايات صح قضاؤه عنده خلافا لهما ا هـ. وعرفه العلامة قاسم بأنه إنشاء إلزام في مسائل الاجتهاد المتقاربة فيما يقع فيه النزاع لمصالح الدنيا فخرج القضاء على خلاف الإجماع وخرج ما ليس بحادثة وما كان من العبادات ا هـ. ووقع في الهداية وكثير التعبير بباب أدب القاضي ففي العناية الأدب اسم يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل قال أبو زيد، ويجوز أن يعرف بأنه ملكة تعصم من قامت به عما يشينه ا هـ. وفي فتح القدير الأدب الخصال الحميدة فالمراد بها هنا ما ينبغي للقاضي أن يفعله وما عليه أن ينتهي عنه، والأولى التفسير بالملكة؛ لأنها الصفة الراسخة للنفس فما لم يكن كذلك لا يكون أدبا كما لا يخفى وفي القاموس الأدب محركة الظرف وحسن التناول أدب كحسن أدبا فهو أديب والجمع أدباء ا هـ. الثالث: في ركنه وهو ما يدل عليه من قول أو فعل فالأول قال في القنية قول القاضي حكمت أو قضيت ليس بشرط. وقوله بعد إقامة البينة للمعتمد أقمه واطلب الذهب منه حكم منه وقوله ثبت عندي يكفي وكذا إذا قال ظهر عندي أو صح عندي أو علمت فهذا كله حكم في المختار زاد في الخزانة أو أشهد عليه وحكي في التتمة الخلاف في الثبوت وصحح في البزازية أنه حكم، وذكر في أنفع الوسائل معزيا إلى الكبرى للخاصي أن الفتوى على أن الثبوت حكم، وكذا في الخانية والتحقيق أنه لا خلاف فمن قال إنه ليس بحكم أراد به إذا لم يكن بعد تقدم دعوى صحيحة، ومن قال إنه حكم أراد إذا كان بعد الدعوى ثم اعلم أن الثبوت ليس بحكم اتفاقا في مواضع ظفرت بها منها ثبوت ملك البائع للعين المبيعة عند البيع، وهو المسمى ببينة الجريان وقد ذكره ابن وهبان في شرح قوله في المنظومة ويدخل شرب الأرض من دون ذكره قال إذا شهد الشهود بملكية الأرض لإنسان على ما هو المعتاد في كتب التبايع في بلادنا أنه يقيم المشتري والبائع بينة بأن البائع لم يزل حائزا مالكا لجميع الأرض، وكذلك في الوقف من أحل صحة البيع أو الموقوف أو غيرهما. ا هـ. وفائدة بينة الملك للبائع أو الواقف التوصل إلى قضاء القاضي بصحة البيع أو الوقف، وإلا لم يقض بالصحة وإنما يقضي بموجب ما أقر به كما في فتاوى قارئ الهداية ومنها ما ذكره ابن الغرس من قولهم لا تصح الدعوى في العقار حتى يثبت المدعي أن المدعى عليه واضع يده عليه، وهذا الثبوت ليس بحكم قطعا ا هـ. قال ومنها قول الموثق وثبت عنده أن العين بصفة الاستبدال شرعا ومنها قولهم في خيار العيب لا بد أن يثبت المشتري قيام العيب للحال لتوجه الخصومة إلى البائع فإنه ثبوت مجرد لا حكم، ومنها قولهم إنه ثبت أن لا مال للصغير سوى العقار عند بيع عقاره ا هـ. وفي البزازية قوله لا أرى لك حقا في هذه الدار بهذه الدعوى لا يكون قضاء ما لم يقل أمضيت أو أنفذت عليك القضاء بكذا، وكذا قوله للمدعى عليه سلم هذه الدار إليه بعد إقامة البرهان، قال وهذا نص على أن أمره لا يكون بمنزلة قضائه، وذكر شمس الأئمة أنه حكم؛ لأن أمره إلزام وحكم وإذا قال القاضي ثبت عندي وقلنا إنه حكم فالأولى أن يبين أن الثبوت بماذا بالإقرار أم بالبينة لمخالفة الحكم بين طريقي الحكمين، وفي الخانية لو قال القاضي بعدما شهد العدول أرى أن الحق للمشهود له لم يكن قضاء؛ لأن قوله أرى أو رأى بمنزلة قوله أظن، ولو قال أظن لم يكن قضاء ثم قال البزازي أمر القاضي ليس كقضائه بدليل ما ذكره الظهيري وقف على الفقراء فاحتاج بعض قرابة الواقف فأمر القاضي بأن يصرف شيء من الوقف إليه فهذا بمنزلة الفتوى حتى لو أراد أن يصرفه إلى فقير آخر صح ولو حكم بأن لا يصرف إلا إلى أقربائه نفذ حكمه دل هذا أن أمره ليس بحكم ا هـ. والحاصل أنهم اختلفوا في قوله سلم الدار هل هو حكم أو لا ولم يحكوا خلافا في أن أمره بإعطاء بعض قرابته ليس بحكم، وأما قولهم لو حكم القاضي أن لا يعطي غير هذا الرجل نفذ حكمه فقد قال في فتح القدير من الوقف بعد نقله عن الخصاف من غير تقييد بأقارب الواقف، وقد استبعدت صحة هذا الحكم وكيف ساغ بلا شرط حتى ظفرت في المسألة بقويلة إن هذا الحكم لا يصح ولا يلزم ا هـ. ويمكن أن تجعل له حادثة هي إعطاء المتولي فقيرا شيئا من وقف الفقراء سنة، ثم جاء له في السنة الثانية فمنعه وأراد أن يعطي غيره فترافعا إلى القاضي فرأى القاضي أن الدفع إليه أصلح لعلمه وصلاحه فحكم على المتولي بأن لا يعطي غيره نفذ؛ لأن فيه موافقة للشرط لأنه فقير، وكذا علل في أوقاف الخصاف بعد المسألتين أعني ما إذا أعطاه القاضي بلا حكم، وأما إذا حكم بأن لا يعطي غيره بأن في كل منهما تنفيذ شرط الواقف ولم يحكوا خلافا في أن أمره بحبس الخصم حكم كأمره بالأخذ منه. قال في القنية وأمر القاضي بحبس المدعى عليه قضاء بالحق ا هـ. وفائدته لو حبسه حنفي في معاملة بفائدة ليس للمالكي إبطالها، كذا في أنفع الوسائل وأما فعله فعلى وجهين فما لم يكن موضعا للحكم فليس بحكم قطعا، ومنه ما إذا أذنت بالغة عاقلة في تزويج نفسها فزوجها فإنه وكيل عنها ففعله ليس بحكم كما في القاسمية وما كان منها موضعا له أي محلا فقد اختلفوا فيه، وله صور منها تزويج الصغار الذين لا ولي لهم، ومنها شراؤه وبيعه مال اليتيم ومنها قسمة القاضي العقار إلى غير ذلك مما هو في هذا المعنى فجزم في التجنيس بأنه حكم ولذا لو زوج اليتيمة من ابنه لم يجز، ورده في فتح القدير من كتاب النكاح بأنه ليس بحكم لانتفاء شرطه، وهو الأوجه قال والإلحاق بالوكيل يكفي للمنع يعني أن الوكيل بالنكاح لا يملك أن يزوج من ابنه فكذا القاضي بمنزلة الوكيل، أقول: وكذا ما ذكره في التتمة من أن القاضي لو باع مال اليتيم من نفسه لا يجوز لأن بيع القاضي يكون على وجه الحكم، وحكمه لنفسه لا يجوز ا هـ. خلاف الأوجه والإلحاق بالوكيل للمنع مغن عن كونه حكما؛ لأن بيع الوكيل من نفسه باطل. وكذا ما ذكر في الذخيرة من أن الإمام إذا اشترى شيئا من الغنيمة لنفسه لا يجوز شراؤه وإن كان للغانمين فيه منفعة ظاهرة لأن الإمام إنما يبيع الغنائم على وجه الحكم بين المسلمين، ولهذا لا تلزم العهدة عليه فلو جاز بيعه من نفسه كان ذلك حكما من نفسه، وحكم الإمام والقاضي لنفسه لا يجوز ا هـ خلاف الأوجه، ولكن لما كثر ذلك في كلام أئمتنا فالأولى أن يقال إن الحكم القولي يحتاج إلى الدعوى والفعلي لا كالقضاء الضمني لا يحتاج إلى الدعوى له، وإنما يحتاج القصدي فيدخل الضمني تبعا تصحيحا لكلامهم فمن نقل أن فعل القاضي حكم صاحب التجنيس والتتمة والذخيرة كما أسلفناه، وصرح به في بيوع المحيط الإمام شمس الأئمة السرخسي وفي بيوع فتاوى قاضي خان، وصرح به محمد في الأصل قال إذا حضر الورثة إلى القاضي فطلبوا القسمة وبينهم وارث غائب أو صغير، والتركة عقار قال أبو حنيفة لا أقسم بينهم بإقرارهم حتى يقيموا بينة على الموت والمواريث، وقال أبو يوسف ومحمد: أقسم ذلك بإقرارهم، وقال أبو حنيفة: لا أقسم ذلك بقولهم ولا أقضي على الغائب والصغير بقولهم؛ لأن قسمة القاضي قضاء منه ا هـ. وما في الأصل من قوله؛ لأن قسمة القاضي قضاء منه قاطع للشبهة كلها فتعين الرجوع إلى الحق. وأما شرائطه وهو الرابع ففي الحكم أن يكون بعد تقدم دعوى صحيحة من خصم على خصم فإن فقد هذا الشرط لم يكن حكما، وإنما هو إفتاء صرح به الإمام السرخسي قال وهذا شرط لنفاذ القضاء في المجتهدات ذكره العمادي في فصوله والبزازي في فتاواه، ونقل الشيخ قاسم في فتاويه الإجماع عليه، وفي فتاوى قاضي خان إنما ينفذ القضاء عند شرائط القضاء من الخصومة وغيرها فإذا لم يوجد لم ينفذ ا هـ. فإذا حكم شافعي بموجب بيع عقار لا يكون حكما بأن لا شفعة للجار لعدم حادثة الشفعة وقت الحكم به، وهكذا في نظائره كما ذكره العلامة قاسم في فتاويه، والموجب بفتح الجيم هو الحكم، ومن شرائط الحكم أن يكون بحق كالقضاء بالبينة أو اليمين أو النكول أو علم القاضي بشرطه أو كتاب القاضي إلى القاضي بشرطه وبإخبار القاضي يجوز لنائبه القضاء وعكسه كما في البزازية، ولا يشترط له المصر على ظاهر الرواية فالقضاء بالسواد صحيح، وبه يفتى ولا يشترط أن يكون المتداعيان من بلد القاضي إذا كانت الدعوى في المنقول والدين. وأما إذا كانت في عقار لا في ولايته فالصحيح الجواز كما في الخلاصة والبزازية وإياك أن تفهم خلاف ذلك فإنه غلط فإن قلت: هل تقرير القاضي للنفقة حكم منه قلت: هو حكم، وطلب المرأة التقرير بشرطه دعوى فقد وجد بعد الدعوى والحادثة، ويدل عليه ما في نفقات خزانة المفتين وإذا أراد القاضي أن يفرض النفقة يقول فرضت عليك نفقة امرأتك كذا وكذا في مدة كذا، أو يقول قضيت عليك بالنفقة مدة كذا يصح، وتجب على الزوج حتى لا تسقط بمضي المدة؛ لأن نفقة زمان المستقبل تصير واجبة بقضاء القاضي حتى لو أبرأت بعد الفرض صح ا هـ. فإن قلت: إذا فرض لها نفقة مدة معينة كان قضاء بجميعها فإذا فرض لها نفقة كل يوم أو كل شهر هل يكون قضاء بواحد أو بالكل قلت: هو قضاء بالجميع ما دامت في عصمته ولم يمنع مانع بدليل ما في الخزانة فرض كل شهر عشرة دراهم فأبرأت من نفقتها أبدا برئ من نفقة الشهر الأول فإذا مضى أشهر فأبرأته من نفقة ما مضى وما يستقبل برئ مما مضى ومن شهر مما يستقبل، وتمامه فيها وفي المحكوم عليه وله حضرته أو من يقوم مقامه كوكيل ووصي ومتول على وقف وأحد الورثة أو يكون ما يدعي على الغائب سببا لما يدعي على الحاضر، فالقضاء بلا خصم حاضر غير صحيح، وقد صرح بعدم صحته الشارحون عند قولهم لا يقضى على غائب كما سنبينه إن شاء الله تعالى وصرح به في البدائع هنا أنه من شرائط القضاء. وبهذا يظهر أن قولهم: إن القضاء على الغائب ينفذ في أظهر الروايتين عن أصحابنا وعليه الفتوى كما في الخلاصة وغيرها محمول على ما إذا كان القاضي شافعيا، وإلا فمشكل وما وقع في بعض الكتب كالقنية من أنه في حق الحنفي أيضا ضعيف، وسيأتي بيان اختلاف التصحيح وفي الحاكم العقل والبلوغ والإسلام والحرية والسمع والبصر والنطق والسلامة عن حد القذف وأن يكون مولى للحكم دون سماع الدعوى فقط كما في الخزانة لا الذكورة والاجتهاد، وأما في المحكوم به فأن يكون معلوما كما في البدائع كما سيأتي في الدعوى، وأما في المحكوم له فدعواه الصحيحة، وأما طلبه الحكم في حقوق العباد من القاضي بعد وجود الشرائط ففي الخلاصة طلب الحكم ليس بشرط، وأن يكون ممن تقبل شهادة القاضي له كما في البدائع، وسيزداد الأمر وضوحا إن شاء الله تعالى وأما صفته وهو الخامس فواجب عند استجماع شرائطه وانتفاء الريبة، ولذا قال في جامع الفصولين القاضي بتأخير الحكم يأثم ويعزل ويعزر ا هـ. ويجوز تأخيره لرجاء الصلح بين الأقارب أو لاستمهال المدعى عليه كما في الولوالجية وفي شرح باكير أن القاضي إذا أخر القضاء بعد إقامة البينة يفسق وإن أنكره يكفر ا هـ. وأما صفة قبوله للقضاء فسيأتي أنه فرض وحرام ومباح ومستحب. والسادس في طريق ثبوته له وجهان أحدهما اعترافه حيث كان متوليا وسيأتي أنه إذا قال قاض عالم عدل قضيت على هذا بالقطع أو بالقتل وسعك فعله وإن لم تعاين سببه، وأما إذا كان معزولا فهو كواحد من الرعايا لا يقبل قوله مطلقا إلا فيما إذا كان في يده كما سيأتي وفي السراج الوهاج الحاكم إذا حكم بحق، ثم قال بعد عزله كنت حكمت لفلان بكذا لم يقبل قوله ا هـ. الثاني: أن يشهد شاهدان على حكمه بعد دعوى صحيحة إن لم يكن القاضي منكرا قال في البزازية والخلاصة وإن أرادوا أن يثبتوا حكم الخليفة عند الأصل فلا بد من تقديم دعوى صحيحة على خصم حاضر وإقامة البينة كما لو أرادوا إثبات قضاء قاض آخر ا هـ. في البزازية أيضا شهدا على القاضي أنه قضى في غير مجلس القضاء أو خارج المصر تقبل عنده خلافا لهما ا هـ. قيدنا بعدم إنكاره لأنهما لو شهدا أنه قضى بكذا، وقال لم أقض بشيء لا تقبل شهادتهما خلافا لمحمد كذا في البزازية ا هـ. ورجح في جامع الفصولين قول محمد قال وينبغي أن يفتى به لما علم من أحوال قضاة زماننا ثم نقل أن محمدا ا قال لا يقضي القاضي بعلمه ثم نقل عن عيون المذاهب أن يفتي بقوله وقيد بقوله بعد دعوى صحيحة؛ لأنه قبلها إفتاء لا حكما كما قدمناه وبه علم أن الاتصالات والتنافذ الواقعة في زماننا المجردة عن الدعاوى ليست حكما، وإنما فائدتها تسليم الثاني للأول قضاء. السابع في أحكامه فمنها بالنسبة إلى الحكم اللزوم فليس لأحد نقضه حيث كان مجتهدا فيه ومستوفيا شرائطه الشرعية، وهل يصح رجوع القاضي عنه ففي الخلاصة و البزازية للقاضي أن يرجع عن قضائه إن كان خطأ رجع ورده، وإن كان مختلفا فيه أمضاه وقضى فيما يأتي بما هو عنده فإن ظهر له نص بخلاف قضائه نقضه، ثم إن كان في حقوق العباد كالطلاق والعتاق والقصاص أو ظهر أن الشهود عبيد أو محدودون في قذف إن قال القاضي تعمدت فالضمان في ماله، ويعزر للجناية وإن أخطأ يضمن الدية وفي الطلاق والعتاق ترد المرأة إلى الزوج والرقيق إلى المولى وفي حقوقه تعالى كالزنا والشرب إذا حد وبان الشهود عبيدا، وقال تعمدت الحكم يضمن في ماله الدية وفي الخطأ يضمن من بيت المال هذا إذا ظهر الخطأ بالبينة أو بإقرار المقضي له، أما إذا أقر القاضي بذلك لا يثبت الخطأ كما لو رجع الشاهد عن الشهادة لا يبطل القضاء ا هـ. وإذا أقر المقضي له ببطلانه بطل إلا المقضي بحريته كما في البزازية وبالنسبة إلى التولية عدمه، وفي الخلاصة والبزازية للسلطان أن يعزل القاضي لريبة أو لغير ريبة ا هـ. قلت: ولقاضي القضاة عزل نائبه بجنحة وغيرها ومنها أن القضاء إذا فوض لاثنين لا يلي القضاء أحدهما فلو شرط أن ينفرد كل منهما بالقضاء لا رواية فيه، وقال الإمام ظهير الدين ينبغي أن يجوز؛ لأن نائب القاضي نائب عن السلطان حتى لا ينعزل بانعزال القاضي، ويملك التفرد كذا في البزازية. ومنها صحة تعليقه وإضافته وتقييده بزمان ومكان، ولو لم يقيده ببلد فالمختار أنه يصير قاضيا ببلده الذي هو فيه لا في كل بلاد السلطان وهذا في تعليق الولاية، وهل يصح تعليق ولاية القضاء قال في نفقات خزانة المفتين امرأة أقامت على رجل بينة بالنكاح فلا نفقة لها في مدة المسألة عن الشهود، ولو أراد القاضي أن يفرض لها النفقة لما رأى من المصلحة ينبغي أن يقول لها إن كنت امرأته قد فرضت لك عليه في كل شهر كذا، ويشهد على ذلك فإذا مضى شهر، وقد استدانت وعدلت البينة أخذت نفقتها منذ فرض لها ا هـ. وعلى هذا فقول القاضي حكمت بكذا إن لم يمنع مانع شرعي صحيح ومن أحكامه أنه لو قضى الفضولي فأجاز القاضي قضاءه جاز، ولو كان مولى في كل أسبوع يومين فقضى في غير اليومين توقف قضاؤه فإن أجازه في نوبته جاز كما في آخر جامع الفصولين كذا في البزازية ولو استثنى حوادث فلان لا يقضي فيها، ولو قضى لا ينفذ ومنها أنها لا يملك الاستخلاف إلا بإذن صريح أو دلالة بأن يقول له جعلتك قاضي القضاة ومنها أن القاضي لا يبقى أكثر من سنة كي لا ينسى العلم، ومنها أنه يقتصر على المقضي عليه وعلى كل من تلقى الملك منه ولا يتعدى إلى الكافة، ويتعدى في القضاء بالحرية والنسب والولاء والنكاح ولا يتعدى في الوقف على الأصح، وقدمناه في باب الاستحقاق من البيوع. الثامن فيما يخرج القاضي عن القضاء ففي البزازية أربع خصال إذا حل بالقاضي انعزل فوات السمع أو البصر أو العقل أو الدين، وإذا عزل السلطان القاضي لا ينعزل ما لم يصل إليه الخبر كالوكيل، وعن الثاني أنه لا ينعزل ما لم يأت قاض آخر صيانة للمسلمين عن تعطيل قضاياهم، وهذا إذا لم يعلق عزله بشرط كوصول الكتاب ونحوه وإن معلقا لا ينعزل ما لم يصل إليه الكتاب، وإن وصل إليه الخبر وإذا مات القاضي انعزل خلفاؤه وإذا عزل القاضي فالفتوى على أن النائب لا ينعزل بعزله؛ لأنه نائب السلطان أو العامة وبعزل نائب القاضي لا ينعزل القاضي، ولا ينعزل بموت الخليفة كذا في البزازية وفيها القاضي إذا عزل نفسه، وبلغ السلطان عزله ينعزل، وكذا إذا كتب به إلى السلطان وبلغ الكتاب إلى السلطان، وقيل لا ينعزل بعزل نفسه؛ لأنه نائب عن العامة فلا يملك إبطال حقهم ا هـ. وينبغي أن الخصم لو علم بعزله ولم يعلم القاضي أنه لا ينفذ حكمه لعلمه أنه غير حاكم باطنا، ولم أره وكذا لم أر ما إذا بلغ النائب عزل قاضي القضاة، وينبغي أن لا ينعزل حتى يعلم أصله، وكذا لم أر حكم ما إذا بلغ الأصل دون النواب ولم يعلمهم فحكموا، وينبغي أن يصح حكمهم وأن يستحق الأصل ما عين له على القضاء من بيت المال لمباشرة نوابه، وفي البدائع أن القاضي يخرج عن القضاء بكل ما يخرج الوكيل إلا إذا مات الخليفة أو خلع فإنه لا تنعزل قضاته وولاته، وإذا مات الموكل انعزل وكيله ولا ينعزل بأخذ الرشوة والفسق عندنا ا هـ. وفي البزازية قلد السلطان رجلا قضاء بلدة، ثم بعد أيام قلد القضاء آخر، ولم يتعرض لعزل الأول الأظهر والأشبه أنه لا ينعزل ا هـ. وفي الولوالجية إذا ارتد القاضي أو فسق ثم صلح فهو على حاله؛ لأن المرتد أمره موقوف ولأن الارتداد فسق وبنفس الفسق لا ينعزل إلا أن ما قضى في حالة الردة باطل بخلاف الحكم إذا ارتد فإنه يخرج، والفرق مذكور فيها وما قدمناه عن البزازية من أنه ينعزل بفوات الدين يخالفه إلا أن يقال بالردة ينعزل عن نفاذ قضائه جمعا بينهما وفي الواقعات الحسامية الفتوى على أنه لا ينعزل بالردة فإن الكفر لا ينافي ابتداء القضاء في إحدى الروايتين حتى لو قلد الكافر، ثم أسلم هل يحتاج إلى تقليد آخر فيه روايتان ا هـ. وبه علمت أن ما في الخلاصة على خلاف المفتى به، وعلمت أن تقليد الكافر صحيح وإن لم يصح قضاؤه على المسلم حال كفره، وفي الخزانة إذا عمي القاضي ثم أبصر فهو على قضائه ا هـ. التاسع: في آدابه وستأتي. العاشر: في محاسنه منها إنصاف المظلوم من الظالم وتخليص الحقوق إلى أهلها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من أعظم العبادات وبه أمر كل نبي قال الله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون} وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} والحاكم نائب عن الله تعالى في أرضه ولولاه لفسد العباد والبلاد، ومع ذلك فله مساو مذكورة في شرح أدب القضاء للخصاف للصدر الشهيد. قوله (أهله أهل الشهادة) أي أهل القضاء أي من يصح منه أو من تصح توليته له؛ لأن كلا منهما يثبت الولاية على الغير الشاهد يلزم الحاكم أن يحكم بشهادته، والحاكم الخصم بحكمه فكانا من باب واحد، وليس المراد أن القضاء مبني على الشهادة ليلزم منه بناء القوي على الضعيف، وإنما المراد أنهما يرجعان في شيء واحد وهو أن يكون حرا مسلما بالغا عاقلا عدلا لا أن حكمه مبني على حكمها لكن أوصاف الشهادة أشهر عند الناس فعرف أوصافه بأوصافها وتمامه في النهاية، فلا تصح تولية كافر وصبي فلذا قال في البزازية قلد القضاء لصبي، ثم أدرك لا يقضى به ذكره في المنتقى وفي الأجناس قلد القضاء الكافر ثم أسلم فهو على قضائه ولا يحتاج إلى تجديد ثان ا هـ. وفيها قبله السلطان أمر عبده بنصب القاضي في بلدة ونصب يصح بطريق النيابة عن السلطان، ولو حكم بنفسه لا يصح ولو جمع بنفسه بعد أمره أو أمر غيره صح الإمام أذن لعبده بالقضاء فقضى بعدما عتق جاز، ولا يحتاج إلى تجديد الإذن كما لو تحمل الشهادة في الرق، ثم عتق. ا هـ. وقدمنا أن شرائط القاضي ثمانية وفي منظومة ابن وهبان وتولية الأطروش الأصح جوازها، وفسره الشارح بأن يسمع ما قوي من الأصوات، والأصم بخلافه وهو من لا يسمع ألبتة، وفي القاموس قوم طرش والأطروش الأصم وظاهر كلامهم أن من لا تقبل شهادته لم يصح قضاؤه، ولا يرد الفاسق فإنه عندنا أهل لهما؛ لأن القاضي لو قضى بشهادته صح وإن كان يأثم كما سيأتي فعلى هذا لا يصح قضاء العدو على عدوه عداوة دنيوية كالشهادة، وإن قلنا بصحته إذا قضى بالبينة أو الإقرار لا بعلمه فهي مستثناة ولا يصح القضاء لمن لا تقبل شهادته له إلا في مسألة ما إذا ورد عليه كتاب القاضي، وأنه يقضي له كما في السراج الوهاج وكتبناه في فوائد القضاء وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في الشهادات، ولو ولى السلطان قاضيا مشركا على الكفار فظاهر تعليل الخلاصة الصحة وهو ظاهر؛ لأنه أهل للشهادة عليهم، وسئلت عن تولية الباشاه بالقاهرة قاضيا ليحكم في حادثة خاصة مع وجود قاضيها المولى من السلطان فأجبت بعدم الصحة؛ لأنه لم يفوض إليه تقليد القضاء، ولذا لو حكم بنفسه لم يصح كما قدمناه قوله (والفاسق أهل للقضاء كما هو أهل للشهادة إلا أنه لا ينبغي أن يقلد) لما قدمنا أنهما من باب واحد ولا ينبغي تقليده؛ لأن القضاء من باب الأمانة، والفاسق لا يؤتمن في أمر الدين لقلة مبالاته به كما لا ينبغي قبول شهادته، فإن قبلها نفذ الحكم بها وفي غير موضع ذكر الأولوية يعني الأولى أن لا تقبل شهادته وإن قبل جاز وفي فتح القدير ومقتضى الدليل أن لا يحل أن يقضى بها فإن قضى جاز ونفذ. ا هـ. ومقتضاه الإثم وعلى الأول لا يأثم وظاهر الآية يفيد أنه لا يحل قبولها قبل تعرف حاله وهي قوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} وقولهم بوجوب السؤال عن الشاهد سرا وعلانية طعن الخصم أو لا في سائر الحقوق على قولهما المفتى به يقتضي أن يأثم بتركه؛ لأنه للتعرف عن حاله حتى لا يقبل الفاسق، وصرح في إصلاح الإيضاح بأن من قلد فاسقا يأثم، وإن قبل القاضي شهادته يأثم، واستثنى أبو يوسف من الفاسق إذا شهد أن يكون ذا جاه ومروءة فإنه يجب قبول شهادته كما في البزازية فعلى هذا يجوز تقليده القضاء إلا أن يكون أبو يوسف فارقا بينهما والفسق لغة الخروج عن الاستقامة كذا في المغرب وشرعا ارتكاب كبيرة أو الإصرار على صغيرة كما في الخزانة، والعدالة اجتناب الكبائر والإصرار على صغيرة واجتناب فعل ما يخل بالمروءة كما سيأتي في الشهادات إذا ارتكب ما يخلها خرج عن كونه عدلا وإن لم يصر فاسقا به. (قوله: ولو كان عدلا ففسق لا ينعزل، ويستحق العزل) أي فسق بأخذ الرشوة أو بغيره من الزنا وشرب الخمر، وما ذكره المؤلف من صحة تولية الفاسق وعدم عزله لو فسق هو ظاهر المذهب كما في الهداية، وهو قول عامة المشايخ، وهو الصحيح كما في الخانية وعن علمائنا الثلاثة في النوادر أنه لا يجوز قضاؤه، وقال بعض المشايخ إذا قلد الفاسق ابتداء يصح ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق وفي إيضاح الإصلاح وعليه الفتوى ا هـ. وهو غريب، ولم أره والمذهب خلافه؛ لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يكن راضيا دونها، وهذا مما كان فيه الابتداء أسهل من البقاء وله نظير مذكور في المعراج وأبق المأذون ينحجر ولو أذن للآبق صح وقيده في الخانية بما في يده عكس السائر على ألسنة الفقهاء، وهو أن البقاء أسهل من الابتداء، وإنما كان كذلك لوجود دليل يقتضيه وهو أن المقلد أعقد عدالته فيتقيد التقليد بحال عدالته إلى آخر ما في النهاية وفي البزازية ولو شرط في التقليد أنه متى فسق ينعزل انعزل ا هـ. قيد بالقضاء؛ لأن الفسق لا يمنع الإمامة بلا خلاف ولا ينعزل بالفسق ا هـ. وقوله يستحق العزل معناه يجب على السلطان عزله، كذا في البزازية وفي المعراج يحسن عزله ا هـ فقد اختلف في معنى الاستحقاق كما اختلف في توليته ابتداء وفي فتاوى قاضي خان من الردة، والسلطان يصير سلطانا بأمرين بالمبايعة معه يعتبر في المبايعة مبايعة أشرافهم وأعيانهم الثاني أن ينفذ حكمه على رعيته خوفا من قهره وجبروته، فإن بايع الناس ولم ينفذ فيهم حكمه لعجزه عن قهرهم لا يصير سلطانا، فإذا صار سلطانا بالمبايعة فجار إن كان له قهر وغلبة لا ينعزل؛ لأنه لو انعزل يصير سلطانا بالقهر والغلبة فلا يفيد وإن لم يكن له قهر وغلبة ينعزل ا هـ. ومن أول الدعاوى، والوالي إذا فسق فهو بمنزلة القاضي يستحق العزل ولا ينعزل ا هـ. ولم يذكر المؤلف نفاذ قضائه ولا يلزم من عدم عزله نفاذ قضائه لما في الخانية وأجمعوا على أنه إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى ا هـ. مع أنه قدم أنه لا ينعزل بالفسق فصار الحاصل أنه إذا فسق لا ينعزل، وتنفذ قضاياه إلا في مسألة هي ما إذا فسق بالرشوة فإنه لا ينفذ في الحادثة التي أخذ بسببها، وذكر الطرسوسي أن من قال باستحقاقه العزل قال بصحة أحكامه، ومن قال بعزله قال ببطلانها قوله (وإذا أخذ القضاء بالرشوة لا يصير قاضيا) أي بمال دفعه لتوليته لم تصح توليته وهو الصحيح، ولو قضى لم ينفذ وبه يفتى إذ الإمام لو قلد برشوة أخذها هو أو قومه وهو عالم به لم يجز تقليده كقضائه برشوة كذا في جامع الفصولين، ثم رقم لآخر أن من أخذ القضاء برشوة أو بشفعاء فهو كمحكم لو رفع حكمه إلى قاض آخر يمضيه لو وافق رأيه وإلا أبطله. ا هـ. وهكذا في الخلاصة من أن الفتوى على عدم نفاذه إذا تولى بالرشوة وأطلقه فشمل ما إذا كان القاضي الدافع أو غيره ليوليه السلطان كما في البزازية قيد بتوليته القضاء؛ لأنه لو أخذ الرشوة وقضى فقدمنا عن الخانية الإجماع على أنه لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى، وهكذا في السراج الوهاج وفي البزازية الفتوى على عدم نفاذه، وحكي في فصول العمادي فيه اختلافا فقيل لا ينفذ فيما ارتشى فيه، وينفذ فيما سواه وهذا اختيار شمس الأئمة، وقيل لا ينفذ فيهما وقيل ينفذ فيهما وهو ما ذكره البزدوي ورجحه في فتح القدير بقوله وهو حسن؛ لأن حاصل أمر الرشوة فيما إذا قضى بحق إيجابها فسقه، وقد فرض أن الفسق لا يوجب العزل فولايته قائمة وقضاؤه بحق فلم لا ينفذ وخصوص هذا الفسق غير مؤثر، وغاية ما وجه به أنه إذا ارتشى عامل لنفسه أو ولده يعني والقضاء عمل لله تعالى ا هـ. قلت: ليس هذا مرادهم، وإنما مرادهم أنه قضى لنفسه معنى، والقضاء لنفسه باطل وهذا القول أحسن، وظهر أن خصوص هذا الفسق مؤثر في عدم النفاذ وفي السراج الوهاج معزيا إلى الينابيع قال أبو حنيفة لو قضى القاضي زمانا بين الناس ثم علم أنه مرتش ينبغي للقاضي الذين يختصمون إليه أن يبطل كل قضاياه ا هـ. وفي البزازية فإن ارتشى وكيل القاضي أو كاتبه أو بعض أعوانه فإن بأمره ورضاه فهو كما لو ارتشى بنفسه وإن بغير علمه ينفذ قضاؤه، وعلى المرتشي رد ما قبض قضى ثم ارتشى أو ارتشى ثم قضى أو ارتشى ولده أو بعض من لا تقبل شهادته له لا؛ لأنه لما أخذ المال أو ابنه يكون عاملا لنفسه أو ابنه القاضي المولى أخذ الرشوة ثم بعثه إلى شافعي المذهب ليحكم لا يصح؛ لأنه عامل لنفسه، وإن كتب إليه ليسمع الخصومة، وأخذ أجرة مثل الكتابة ينفذ؛ لأنه ليس برشوة. ا هـ. والرشوة بكسر الراء وضمها كذا في البناية وفي القاموس أنها بالتثليث الجعل وارتشى أخذها واسترشى طلبها وراشاه حاباه وصانعه وترشاه لاينه وأعطاه الرشوة ا هـ. وفي المصباح الرشوة بكسر الراء ما يعطيه الشخص للحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد وجمعها رشا مثل سدرة وسدر، والضم لغة وجمعها رشى بالضم أيضا ورشوته رشوا من باب قتل أعطيته رشوة فارتشى أي أخذ، وأصلها رشا الفرخ إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه ا هـ. وفيه البرطيل بكسر الباء الرشوة وفي المثل البراطيل تنصر الأباطيل كناية مأخوذ من البرطيل الذي هو المعول لأنه يستخرج به ما استتر وفتح الباء عامي لفقد فعليل بالفتح ا هـ. وذكر الأقطع أن الفرق بين الهدية والرشوة أن الرشوة ما يعطيه بشرط أن يعينه والهدية لا شرط معها ا هـ. وفي الخانية الرشوة على وجوه أربعة منها ما هو حرام من الجانبين، وذلك في موضعين: أحدهما إذا تقلد القضاء بالرشوة حرم على القاضي والآخذ وفي صلح المعراج تجوز المصانعة للأوصياء في أموال اليتامى، وبه يفتى ثم قال من الرشوة المحرمة على الآخذ دون الدافع ما يأخذه الشاعر وفي وصايا الخانية قالوا بذل المال لاستخلاص حق له على آخر رشوة. الثاني إذا دفع الرشوة إلى القاضي ليقضي له حرم من الجانبين سواء كان القضاء بحق أو بغير حق، ومنها إذا دفع الرشوة خوفا على نفسه أو ماله فهو حرام على الآخذ غير حرام على الدافع، وكذا إذا طمع في ماله فرشاه ببعض المال ومنها إذا دفع الرشوة ليسوي أمره عند السلطان حل له الدفع ولا يحل للآخذ أن يأخذ فإن أراد أن يحل للآخذ يستأجر الآخذ يوما إلى الليل بما يريد أن يدفع إليه فإنه تصح هذه الإجارة، ثم المستأجر إن شاء استعمله في هذا العمل، وإن شاء استعمله في غيره هذا إذا أعطاه الرشوة أولا ليسوي أمره عند السلطان، وإن طلب منه أن يسوي أمره ولم يذكر له الرشوة وأعطاه بعدما يسوي اختلفوا فيه قال بعضهم لا يحل له أن يأخذ، وقال بعضهم يحل وهو الصحيح؛ لأنه يريد مجازاة الإحسان فيحل ا هـ. ولم أر قسما يحل الأخذ فيه دون الدفع، وأما الحلال من الجانبين فهو الإهداء للتودد والمحبة كما صرحوا به وليس هو من الرشوة لما علمت وفي القنية قبيل التحري الظلمة تمنع الناس من الاحتطاب من المروج إلا بدفع شيء إليهم فالدفع والأخذ حرام؛ لأنه رشوة ا هـ. وفيها ما يدفعه المتعاشقان رشوة يجب ردها ولا تملك ا هـ. فهذا يفيد أن الآخذ لا يملكها وقد صرح به في هبة القنية قال وفي السير الكبير الرشوة لا تملك إلى أن قال أبرأه عن الدين ليصلح مهمه عند السلطان لا يبرأ وهو رشوة، ولو أبى الاضطجاع عند امرأته فقال أبرئيني عن المهر فأضطجع معك فأبرأته قيل يبرأ؛ لأن الإبراء للتودد الداعي للجماع، وقال عليه الصلاة والسلام: «تهادوا تحابوا» بخلاف الإبراء في الأول؛ لأنه مقصود على إصلاح المهم، وإصلاح المهم مستحق عليه ديانة، وبذل المال فيما هو مستحق عليه حد الرشوة ا هـ. وفيها دفع للقاضي أو لغيره سحتا لإصلاح المهم فأصلح ثم ندم برد ما دفع إليه ا هـ. فظاهره أن التوبة من الرشوة برد المال إلى صاحبه وإن قضى حاجته وفي صلح المعراج تجوز المصانعة للأوصياء في أموال اليتامى وبه يفتى، ثم قال من الرشوة المحرمة على الآخذ دون الدافع ما يأخذه الشاعر وفي وصايا الخانية قالوا بذل المال لاستخلاص حق له على آخر رشوة، وليس منه ما تأخذه المرأة لأجل صلحها مع الزوج قال في الخلاصة والبزازية آخر كتاب الصلح وقع بين الزوجين مشاقات فقالت لا أصالحه حتى يعطيني كذا؛ لأن لها عليه حقا كالمهر والنفقة ا هـ. ومنها ما في مهر البزازية الأخ أبى أن يزوج الأخت إلا أن يدفع له كذا فدفع له أن يأخذه منه قائما أو هالكا؛ لأنه رشوة وعلى قياس هذا يرجع بالهدية أيضا في المسألة المتقدمة إذا علم من حاله أنه لا يزوجه إلا بالهدية وإلا لا ا هـ. ومنها لو أنفق على معتدة الغير ليتزوجها فأبت أن تتزوجه إن شرط الرجوع رجع تزوجها أم لا وإلا لكن أنفق على طمع أن يتزوجها اختلف التصحيح في الرجوع وعدمه، وقدمناه وتمامه فيها. قوله (والفاسق يصلح مفتيا وقيل لا) وجه الأول أنه يحذر النسبة إلى الخطأ، ووجه الثاني أنه من أمور الدين وخبره غير مقبول في الديانات ولم يرجح الشارحون أحدهما وظاهر ما في التحرير أنه لا يحل استفتاؤه اتفاقا فإنه قال الاتفاق على حل استفتاء من عرف من أهل العلم بالاجتهاد والعدالة أو رآه منتصبا والناس يستفتونه معظمين وعلى امتناعه إن ظن عدم أحدهما فإن جهل اجتهاده دون عدالته فالمختار منع استفتائه بخلاف المجهول من غيره إذ الاتفاق على المنع ا هـ. فلا أقل من أن يكون ترجيحا لعدم صلاحيته، ولذا جزم به في المجمع واختاره في شرحه، وقال إن أولى ما يستنزل به فيض الرحمة الإلهية في تحقق الواقعات الشرعية طاعة الله عز وجل والتمسك بحبل التقوى قال الله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} ومن اعتمد على رأيه وذهنه في استخراج دقائق الفقه وكنوزه وهو في المعاصي حقيق بإنزال الخذلان عليه فقد اعتمد على ما لا يعتمد عليه {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}. ا هـ. فشرط المفتي إسلامه وعدالته، ولزم منها اشتراط بلوغه وعقله فترد فتوى الفاسق والكافر وغير المكلف إذ لا يقبل خبرهم، ويشترط أهلية اجتهاده كما سيأتي ولا حاجة إلى اشتراط التيقظ وقوة الضبط كما في الروض للاحتراز عمن غلب عليه الغفلة والسهو؛ لأن اشتراط العدالة يغني عنهما وفي شرح الروض وينبغي للإمام أن يسأل أهل العلم المشهورين في عصره عمن يصلح للفتوى ليمنع من لا يصلح ويتوعده بالعقوبة بالعود وليكن المفتي متنزها عن خوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن حسن التصرف والاستنباط، ولو كان المفتي عبدا أو امرأة أو أعمى أو أخرس بالإشارة وليس هو كالشاهد في رد فتواه لقرابة وجر نفع ودفع ضر وعداوة فهو كالراوي لا كالشاهد، وتقبل فتوى من لا يكفر ولا يفسق ببدعة كشهادته ا هـ. وفي تلقيح المحبوبي أن الإشارة من المفتي الناطق يعمل بها فلا يختص بالأخرس وفي القنية رامزا لعين الأئمة المكي أشار المفتي برأسه مكان قوله نعم للمستفتي أن يعمل به ورمز للنوازل عن أبي القاسم مثله ورمز لظهير الدين المرغيناني لا لأن إشارة الناطق لا تعتبر. ا هـ. وسيأتي أنه ينبغي أن يكون المفتي كالقاضي في أوصاف الكمال وفي الظهيرية ولا بأس للقاضي أن يفتي من لم يخاصم إليه، ولا يفتي أحد الخصمين فيما خوصم إليه ا هـ. (قوله: ولا ينبغي أن يكون القاضي فظا غليظا جبارا عنيدا)؛ لأن المقصود منه وهو إيصال الحقوق إلى أهلها لا يحصل به، وفي المصباح رجل فظ شديد غليظ القلب يقال منه فظ من باب تعب فظاظة إذا غلظ حتى يهاب في غير موضعه، وغلظ الرجل اشتد فهو غليظ وفيه غلظة أي غير لين ولا سلس، وأغلظ له في القول إغلاظا عنفه ا هـ. والجبار في الخلق الحامل غيره على الشيء قهرا وغلبة وفي أسمائه تعالى الذي جبر خلقه على ما أراد من أمره ونهيه، والعنيد من عاند فلانا عنادا من باب قاتل إذا ركب الخلاف والعصيان وعانده معاندة عارضه وفعل مثل فعله. قال الأزهري المعاند المعارض بالخلاف لا بالوفاق، وقد يكون مباراة بغير خلاف ا هـ. وفسره في المغرب بمن يظهر له الحق فيأباه، وذكره مسكين أن الفظ هو الجافي سيئ الخلق والغليظ قاسي القلب والجبار من جبره على الأمر بمعنى أجبره أي لا يجبر غيره على ما لا يريد والعنيد المعاند المجانب للحق المعادي لأهله قوله (وينبغي أن يكون موثوقا به في عفافه وعقله وصلاحه وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه) ويكون شديدا من غير عنف لينا من غير ضعف؛ لأن القضاء من أهم أمور المسلمين فكل من كان أعرف وأقدر وأوجه وأهيب وأصبر على ما يصيبه من الناس كان أولى، ينبغي للسلطان أن يتفحص في ذلك ويولي من هو أولى لقوله عليه الصلاة والسلام: «من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» والموثوق به من وثقت به أثق بكسرهما ثقة ووثوقا ائتمنته هو وهي وهم ثقة؛ لأنه مصدر وقد يجمع في الذكور والإناث فيقال ثقات، والعفاف بالفتح من عف عن الشيء يعف من باب ضرب عفة بالكسر امتنع عنه فهو عفيف كذا في المصباح، وفسره الكرماني شارح البخاري بالكف عن المحارم وخوارم المروءة والعقل على قول الأكثر كما في التحرير قوة بها إدراك الكليات للنفس ا هـ. والمراد بالوثوق به في عقله أن يكون كامله فلا يولى الأحمق وهو ناقص العقل قال في المستظرف الحمق الخفة غريزة لا تنفع فيها الحيلة، وهي داء دواؤه الموت وفي الحديث: «الأحمق أبغض الخلق إلى الله تعالى إذ حرمه أعز الأشياء عليه وهو العقل». ويستدل على صفته من حيث الصورة بطول اللحية؛ لأن مخرجها من الدماغ فمن أفرط طول لحيته قل دماغه، ومن قل دماغه قل عقله ومن قل عقله فهو أخف، وأما صفته من حيث الأفعال فترك نظره في العواقب وثقته بمن لا يعرفه والعجب وكثرة الكلام وسرعة الجواب وكثرة الالتفات والخلو من العلم والعجلة والخفة والسفه والظلم والغفلة والسهو والخيلاء إن استغنى بطر، وإن افتقر قنط وإن قال فحش وإن سئل بخل وإن سأل ألح وإن قال لم يحسن، وإن قيل له لم يفقه وإن ضحك قهقه وإن بكى صرخ وإذا اعتبرنا هذه الخصال وجدناها في كثير من الناس، فلا يكاد يعرف العاقل من الأحمق قال عيسى عليه السلام: عالجت الأكمه والأبرص فأبرأتهما وعالجت الأحمق فلم يبرأ. ا هـ. وأما الصلاح فهو لغة خلاف الفساد كما في المصباح وذكر الكرماني أنه لفظ جامع لكل خير، ولذا وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نبينا صلى الله عليه وسلم به ليلة الإسراء فقال كل من لقيه في السماوات مرحبا بالنبي الصالح ولو كان هناك وصف أجمع منه للخير لوصفوه به ا هـ. وفي أوقاف الخصاف الصالح من كان مستورا ليس بمهتوك ولا صاحب ريبة وكان مستقيم الطريقة سليم الناحية كامن الأذى قليل السوء ليس بمعاقر للنبيذ، ولا ينادم عليه الرجال، وليس بقذاف للمحصنات ولا معروفا بالكذب فهذا عندنا من أهل الصلاح. ا هـ. والفهم لغة كما في المصباح العلم والعنف عدم الرفق والضعف العجز عن احتمال الشيء وفي فتح القدير قبيل الحبس، ويستحب أن يكون في القاضي عبسة بلا غضب، وأن يلتزم التواضع من غير وهن ولا ضعف، والمراد بعلم السنة ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وتقريرا عند أمر يعاينه والمراد بوجوه الفقه طرقه، وقدمنا تعريفه أول الكتاب، وذكر مسكين هنا أن الفقه عند عامة العلماء اسم لعلم خاص في الدين لا لكل علم، وهو العلم بالمعاني التي تعلقت بها الأحكام من كتاب وسنة وإجماع ومقتضياتها وإشاراتها قوله (والاجتهاد شرط الأولوية) وهو لغة بذل الطاقة في تحصيل ذي كلفة، واصطلاحا ذلك من الفقه في تحصيل حكم شرعي ظني كما في التحرير واختلفوا في المجتهد فقيل أن يعلم الكتاب بمعانيه والسنة بطرقها، والمراد بعلمهما علم ما يتعلق به الأحكام منهما من العام والخاص والمشترك والمؤول والنص والظاهر والناسخ والمنسوخ ومعرفة الإجماع والقياس ولا يشترط حفظه لجميع القرآن ولا لبعضه عن ظهر القلب بل يكفي أن يعرف مظان أحكامها في أبوابها فيراجعها وقت الحاجة ولا يشترط التبحر في هذه العلوم ولا بد له من معرفة لسان العرب لغة وإعرابا، وأما الاعتقاد فيكفيه اعتقاد جازم ولا يشترط معرفتها على طريق المتكلمين وأدلتهم؛ لأنها صناعة لهم ويدخل في السنة أقوال الصحابة فلا بد من معرفتها؛ لأنه قد يقيس مع وجود قول الصحابي ولا بد له من معرفة عرف الناس، وهو معنى قولهم ولا بد أن يكون صاحب قريحة وفي القاموس والقريحة أول ماء يستنبط من القرح كالبئر، وأول كل شيء ومنك طبعك، والاقتراح ارتجال الكلام واستنباط الشيء من غير سماع والاجتباء والاختيار وابتداع الشيء والتحكم ا هـ. وفي مناقب الإمام محمد الكردري كان محمد يذهب إلى الصباغين، ويسأل عن معاملاتهم وما يديرونها فيما بينهم، وكان الكسائي يختلف إلى محمد فقال له يوما أكثر ما تقولون وعلى هذا معاني كلم الناس ما أنتم وهذا القول لا يعرفه إلا الحذاق من أهل هذه الصناعة فمن أتقن هذه الجملة فهو أهل للاجتهاد فيجب عليه أن يعمل باجتهاده، ولا يقلد أحدا وقوله شرط الأولوية يفيد أن تولية الجاهل صحيحة عندنا؛ لأن المقصود من القضاء وهو إيصال الحق إلى مستحقه يحصل بالعمل بفتوى غيره وفي البزازية من كتاب الإيمان قبيل الثالث والعشرين المفتي يفتي بالديانة والقاضي يقضي بالظاهر إلى أن قال دل أن الجاهل لا يمكنه القضاء بالفتوى أيضا فلا بد من كون القاضي الحاكم في الدماء والفروج عالما دينا كالكبريت الأحمر وأين الكبريت الأحمر وأين الدين والعلم ا هـ. وذكر يعقوب باشا ويعلم من الدليل أن المراد من الجاهل من لا يقدر على أخذ المسائل من كتب الفقه وضبط أقوال الفقهاء كما لا يخفى مع أن المراد منه المقلد بقرينة جعل الاجتهاد شرط الأولوية. ا هـ. وهكذا في إيضاح الإصلاح، وجوز في العناية أن يراد بالجاهل المقلد لكونه ذكر في مقابلة المجتهد، وأن يراد من لا يحفظ شيئا من أقوال الفقهاء وهو المناسب لسياق الكلام لقوله في دليل الشافعي ولا قدرة بدون العلم، ولم يقل بدون الاجتهاد. ا هـ. وأما معناه لغة واصطلاحا فقدمناهما، وأما حكمه فهو غلبة الظن بالحكم مع احتمال الخطأ ورأيت في حجج الدلائل أن الظن الغالب غير غلبة الظن لتغير الثاني دون الأول، وقد يقال المقلد أيضا يعمل بفتوى غيره ولو أخذها من الكتب، وحاصل شرائط المجتهد على ما في التلويح والتحرير الإسلام والبلوغ والعقل وكونه فقيه النفس بمعنى شديد الفهم بالطبع وعلمه باللغة العربية أي الصرف والنحو والمعاني والبيان والأصول، وكونه حاويا لعلم كتاب الله تعالى مما يتعلق بالأحكام، وكونه عالما بالحديث متنا وسندا وناسخا ومنسوخا ولا يشترط فيه بعد صحة العقيدة علم الكلام ولا تفاريع الفقه ولا الذكورة والحرية ولا العدالة فللفاسق الاجتهاد ليعمل بنفسه، وأما غيره فلا يعمل به، ويشترط كونه عالما بوجوه القياس وفي الحقيقة اشتراط علمه بالأصول يغني عنه، ولا بد من معرفة الإجماع ومواقعه ومن معرفة عادات الناس، فالحاصل أن الشرائط أربعة عشر شرطا، وأما ركنه فالمجتهد وهو ما قدمناه والمجتهد فيه وهو حكم شرعي ظني عليه دليل. قوله (والمفتي ينبغي أن يكون هكذا) أي موثوقا به في دينه وعفافه إلى آخره، وأن يكون مجتهدا قال في الفتح القدير واعلم أن ما ذكر في القاضي ذكر في المفتي فلا يفتي إلا المجتهد، وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس مفتيا، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كأبي حنيفة على جهة الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي، وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له سند فيه، أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها من التصانيف المشهورة للمجتهدين؛ لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور هكذا ذكر الرازي فعلى هذا لو وجد بعض نسخ النوادر في زماننا لا يحل عزو ما فيها إلى محمد ولا إلى أبي يوسف؛ لأنها لم تشتهر في عصرنا في ديارنا، ولم تتداول نعم إذا وجد النقل عن النوادر مثلا في كتاب مشهور معروف كالهداية والمبسوط كان ذلك تعويلا على ذلك الكتاب، فلو كان حافظا للأقاويل المختلفة للمجتهدين ولا يعرف الحجة ولا قدرة له على الاجتهاد للترجيح لا يقطع بقول منها يفتى به بل يحكيها للمستفتي فيختار المستفتي ما يقع في قلبه أنه الأصوب. ذكره في بعض الجوامع، وعندي لا يجب عليه حكاية كلها بل يكفيه أن يحكي قولا منها فإن المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء، فإذا ذكر أحدها فقلده حصل المقصود نعم لا يقطع عليه فيقول جواب مسألتك كذا، بل يقول قال أبو حنيفة حكم هذا كذا نعم لو حكى الكل فالأخذ بما يقع في قلبه أنه أصوب أولى، وإلا فالعامي لا عبرة بما يقع في قلبه من صواب الحكم وخطئه، وعلى هذا إذا استفتى فقيهين أعني مجتهدين فاختلفا عليه الأولى بأن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما، وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه قلبه جاز؛ لأن ذلك الميل وعدمه سواء، والواجب عليه تقليد مجتهد، وقد فعل أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ وقالوا المنتقل من مذهب إلى مذهب باجتهاد وبرهان آثم يستوجب التعزير فبلا اجتهاد وبرهان أولى ولا بد أن يراد بهذا الاجتهاد معنى التحري وتحكيم القلب؛ لأن العامي ليس له اجتهاد، ثم حقيقة الانتقال إنما تتحقق في حكم مسألة خاصة قلد فيه وعمل به، وإلا فقوله قلدت أبا حنيفة فيما أفتى به من المسائل والتزمت العمل به على الإجماع، وهو لا يعرف صورها ليس حقيقة التقليد بل هذا حقيقة تعليق التقليد، أو وعد به كأنه التزم أن يعمل بقول أبي حنيفة فيما يقع له من المسائل التي تتعين في الوقائع. فإن أرادوا هذا الالتزام فلا دليل على وجوب اتباع المجتهد المعين بالتزام نفسه ذلك قولا أو نية شرعا، بل دليل اقتضى العمل بقول المجتهد فيما احتاج إليه بقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} والسؤال إنما يتحقق عند طلب حكم الحادثة المعينة، وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عمله به، والغالب أن مثل هذا إلزامات منهم لكف الناس عن تتبع الرخص، وإلا أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد. قوله أخف عليه وأنا لا أدري ما يمنع هذا من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد سوغ له الاجتهاد وما علمت من الشرع ذمه عليه وكان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف عن أمته إلى هنا ما في فتح القدير، ولم يبسط أصحابنا الكلام على المفتي والمستفتي في المتون والشروح، وإنما ذكر أصحاب الفتاوى بعض مسائلهما، وقد بسط الكلام عليهما في الروض في كتاب القضاء فأحببت نقله؛ لأن قواعدنا لا تأباه، ثم أنبه بعده على نقل البعض لمذهبنا والله تعالى أعلم.
|